فصل: فَصـــل: الترتيب في الوضوء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصــل

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ذكر الحدث الأصغر‏.‏ فالمجيء من الغائط هو مجيء من الموضع الذي يقضى فيه الحاجة ‏.‏ وكانوا / ينتابون الأماكن المنخفضة، وهي الغائط‏.‏ وهو كقولك‏:‏ جاء من المرحاض‏.‏ وجاء من الكنيف ونحو ذلك‏.‏ هذا كله عبارة عمن جاء وقد قضى حاجته بالبول أو الغائط‏.‏ والريح يخرج معهما‏.‏

وقد تنازع الفقهاء‏:‏ هل تنقض الريح لكونها تستصحب جزءًا من الغائط‏.‏ فلا يكون على هذا نوعًا آخر‏؟‏ أو هي لا تستصحب جزءًا من الغائط، بل هي نفسها تنقض‏.‏ ونقضها متفق عليه بين المسلمين‏.‏ وقد دل عليه القرآن في قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ‏}‏ سواء كان أريد القيام من النوم أو مطلقًا، فإن القيام من النوم مراد على كل تقدير‏.‏ وهو إنما نقض بخروج الريح‏.‏ هذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور السلف والخلف‏:‏ أن النوم نفسه ليس بناقض، ولكنه مظنة خروج الريح‏.‏

وقد ذهبت طائفة إلى أن النوم نفسه ينقض ونقض الوضوء بقليله وكثيره‏.‏ وهو قول ضعيف‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينام حتى يغط، ثم يقوم يصلي ولا يتوضأ، ويقول‏:‏ ‏(‏تنام عيناي ولا ينام قلبي‏)‏‏.‏

فدل على أن قلبه الذي لم ينم كان يعرف به أنه لم يحدث، ولو كان النوم نفسه كالبول والغائط والريح، لنقض كسائر النواقض‏.‏

وأيضًا، قد ثبت في الصحيحين‏:‏ أن الصحابة كانوا ينتظرون الصلاة حتى/تخفق رؤوسهم، ثم يصـلون ولا يتوضـؤون، وهم في المسجد ينتظرون العشاء خلف النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ‏:‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل عن العشاء ليلة، فأخرها حتى رقدنا في المسجد ثم استيقظنا‏.‏ ثم رقدنا ثم استيقظنا‏.‏ ثم خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏ليس أحد من أهل الأرض الليلة ينتظر الصلاة غيركم‏)‏‏.‏

ولمسلم عنه قال‏:‏ مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة‏.‏ فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل ـ أو بعضه ـ ولا ندري أي شيء شغله، من أهله أو غير ذلك ـ فقال حين خرج‏:‏ ‏(‏إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة‏)‏ ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى‏.‏

ولمسلم ـ أيضًا ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏ أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال‏:‏ إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي‏)‏‏.‏

ففي هذه الأحاديث الصحيحة‏:‏ أنهم ناموا، وقال في بعضها‏:‏ إنهم/ رقدوا ثم استيقظوا ثم رقدوا ثم استيقظوا‏.‏ وكان الذين يصلون خلفه جماعة كثيرة، وقد طال انتظارهم وناموا‏.‏ ولم يستفصل أحدًا، لا سئل ولا سأل الناس‏:‏ هل رأيتم رؤيا‏؟‏ أو هل مكن أحدكم مقعدته‏؟‏ أو هل كان أحدكم مستندًا‏؟‏ وهل سقط شيء من أعضائه على الأرض‏؟‏ فلو كان الحكم يختلف لسألهم‏.‏

وقد علم أنه في مثل هذا الانتظار بالليل ـ مع كثرة الجمع ـ يقع هذا كله‏.‏ وقد كان يصلي خلفه النساء والصبيان‏.‏

وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت‏:‏ أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي بصلاة العشاء، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال عمر بن الخطاب‏:‏ نام النساء والصبيان‏.‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم‏:‏ ‏(‏ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم‏)‏ وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس‏.‏

وقد خرج البخاري هذا الحديث في باب ‏(‏خروج النساء إلى المسجد بالليل والغلس‏)‏ وفي باب ‏(‏النوم قبل العشاء لمن غلب عليه النوم‏)‏، وخرجه في باب ‏(‏وضوء الصبيان وحضورهم الجماعة‏)‏ وقال فيه‏:‏ ‏(‏إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هذه الصلاة غيركم‏)‏‏.‏

/وهـذا يبين أن قول عمر‏:‏ نام النساء والصبيان، يعني والناس في المسجـد ينتظرون الصلاة‏.‏

وهذا يبين أن المنتظرين للصلاة، كالذي ينتظر الجمعة إذا نام ـ أي نوم كان ـ لم ينتقض وضؤوه‏.‏ فإن النوم ليس بناقض‏.‏ وإنما الناقض الحدث، فإذا نام النوم المعتاد، الذي يختاره الناس في العادة ـ كنوم الليل والقائلة ـ فهذا يخرج منه الريح في العادة، وهو لا يدري إذا خرجت، فلما كانت الحكمة خفية لا نعلم بها، قام دليلها مقامها‏.‏ وهذا هو النوم الذي يحصل هذا فيه في العادة‏.‏

وأما النوم الذي يشك فيه‏:‏ هل حصل معه ريح أم لا‏؟‏ فلا ينقض الوضوء؛ لأن الطهارة ثابتة بيقين، فلا تزول بالشك‏.‏

وللناس في هذه المسألة أقوال متعددة، ليس هذا موضع تفصيلها لكن هذا هو الذي يقوم عليه الدليل‏.‏

وليس في الكتاب والسنة نص يوجب النقض بكل نوم‏.‏

فإن قوله‏:‏ ‏(‏العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء‏)‏، قد روي في السنن من حديث على بن أبي طالب ومعاوية/ ـ رضي الله عنهما‏.‏ وقد ضعفه غير واحد‏.‏ وبتقدير صحته، فإنما فيه‏:‏ ‏(‏إذا نامت العينان استطلق الوكاء‏)‏ وهذا يفهم منه‏:‏ أن النوم المعتاد هو الذي يستطلق منه الوكاء‏.‏ ثم نفس الاستطلاق لا ينقض‏.‏ وإنما ينقض ما يخرج مع الاستطلاق‏.‏ وقد يسترخي الإنسان حتى ينطلق الوكاء ولا ينتقض وضؤوه‏.‏

وإنما قوله في حديث صفوان بن عسال‏:‏ أمرنا ألا ننزع خفافنا، إذا كنا سفرًا ـ أو مسافرين ـ ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة‏.‏ لكن من غائط أو بول أو نوم، فهذا ليس فيه ذكر نقض النوم‏.‏ ولكن فيه‏:‏ أن لابس الخفين لا ينزعهما ثلاثة أيام إلا من جنابة ولا ينزعهما من الغائط والبول والنوم، فهو نهي عن نزعهما لهذه الأمور‏.‏ وهو يتناول النوم الذي ينقض، ليس فيه‏:‏ أن كل نوم ينقض الوضوء‏.‏

هذا إذا كان لفظ ‏[‏النوم‏]‏ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فكيف إذا كان من كلام الراوي‏؟‏ وصاحب الشريعة قد يعلم أن الناس إذا كانوا قعودًا أو قيامًا في الصلاة أو غيرها، فينعس أحدهم وينام، ولم يأمر أحدًا بالوضوء في مثل هذا‏.‏

أما الوضوء من النوم المعروف عند الناس، فهو الذي يترجح معه في العادة خروج الريح وأما ما كان قد يخرج معه الريح، وقد لا يخرج‏:‏ فلا ينقض على أصل الجمهور، الذين يقولون‏:‏ إذا شك هل ينقض أو لا ينقض‏؟‏ أنه لا ينقض، بناء على يقين الطهارة‏.‏

/ فصــل

وهو ـ سبحانه ـ أمرنا بالطهارتين الصغرى والكبرى، وبالتيمم على كل منهما، فقال‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ‏}‏ فأمر بالوضوء‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ‏}‏ ، فأمر بالتطهر من الجنابة، كما قال في المحيض‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 222‏]‏، وقال في سورة النساء‏:‏ ‏{‏وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، وهذا يبين أن التطهر هو الاغتسال‏.‏

والقرآن يدل على أنه لا يجب على الجنب إلا الاغتسال، وأنه إذا اغتسل جاز له أن يقرب الصلاة‏.‏ والمغتسل من الجنابة ليس عليه نية رفع الحدث الأصغر، كما قال جمهور العلماء‏.‏ والمشهور في مذهب أحمد‏:‏ أن عليه نية رفع الحدث الأصغر، وكذلك ليس عليه فعل الوضوء، ولا ترتيب ولا موالاة عند الجمهور‏.‏ وهو ظاهر مذهب أحمد‏.‏

وقيل‏:‏ لا يرتفع الحدث الأصغر إلا بهما‏.‏

وقيل‏:‏ لا يرتفع حتى يتوضأ‏.‏ روي ذلك عن أحمد‏.‏

/والقرآن يقتضي أن الاغتسال كاف‏.‏ وأنه ليس عليه بعد الغسل من الجنابة حدث آخر‏.‏ بل صار الأصغر جزءًا من الأكبر‏.‏ كما أن الواجب في الأصغر جزء من الواجب في الأكبر فإن الأكبر يتضمن غسل الأعضاء الأربعة‏.‏

ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية واللواتي غَسَّلْن ابنته‏:‏ ‏(‏اغسلنها ثلاثا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك ـ إن رأيتن ذلك ـ بماء وسدر‏.‏ وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها‏)‏‏.‏

فجعل غسل مواضع الوضوء جزءًا من الغسل، لكنه يقدم كما تقدم الميامن‏.‏

وكذلك الذين نقلوا صفة غسله، كعائشة ـ رضي الله عنها ـ ذكرت أنه كان يتوضأ، ثم يفيض الماء على شعره، ثم على سائر بدنه‏.‏ ولا يقصد غسل مواضع الوضوء مرتين، وكان لا يتوضأ بعد الغسل‏.‏

فقد دل الكتاب والسنة على أن الجنب والحائض لا يغسلان أعضاء الوضوء، ولا ينويان وضوءًا، بل يتطهران ويغتسلان كما أمر الله تعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَاطَّهَّرُواْ‏}‏ أراد به الاغتسال‏.‏ فدل على أن قوله في الحيض‏:‏ ‏{‏حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ‏}‏ أراد به الاغتسال، كما قاله الجمهور ـ / مالك والشافعي وأحمد ـ وأن من قال‏:‏ هو غسل الفرج، كما قاله داود، فهو ضعيف‏.‏

 فصـل

قال الله ـ عز وجل ـ‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء‏}‏ يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏عَلَى سَفَرٍ‏}‏ لا بالمرض‏.‏ والمريض يتيمم وإن وجد الماء‏.‏ والمسافر إنما يتيمم إذا لم يجد الماء‏.‏ ذكر سبحانه وتعالى النوعين الغالبين‏:‏ الذي يتضرر باستعمال الماء، والذي لا يجده‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَى سَفَرٍ‏}‏ يعم السفر الطويل والقصير، كما قاله الجمهور‏.‏

وقوله‏:‏‏{‏وَإِن كُنتُم مَّرْضَى‏}‏ كقوله في آية الخوف‏:‏‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏، وقوله في الإحرام‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏،/وفي الصيام‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏، ولم يوقت الله ـ تعالى ـ وقتًا في المرض‏.‏

والذي عليه الجمهور‏:‏ أنه لا يشترط فيه خوف الهلاك، بل من كان الوضوء يزيد مرضه، أو يؤخر برأه، يتيمم‏.‏ وكذلك في الصيام والإحرام‏.‏ ومن يتضرر بالماء لبرد، فهو كالمريض عند الجمهور‏.‏ لكن الله ذكر الضرر العام‏.‏ وهو المرض‏.‏ بخلاف البرد‏.‏ فإنه إنما يكون في بعض البلاد لبعبض الناس الذين لا يقدرون على الماء الحار‏.‏

وكذلك ذكر المسافر الذي لا يجد الماء، ولم يذكر الحاضر، فإن عدمه في الحضر نادر‏.‏ لكن قد يحبس الرجل وليس عنده إلا ما يكفيه لشربه كما أن المسافر قد لا يكون معه إلا ما يكفيه لشربه وشرب دوابه، فهذا عند الجمهور عادم للماء فيتيمم‏.‏

 فَصــل

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏‏.‏

ذكر أعظم ما يوجب الوضوء‏.‏ وهو قضاء الحاجة‏.‏ وأغلظ ما يوجب الغسل، وهو ملامسة النساء‏.‏ وأمر كلا منهما، إذا كان/ مريضًا أو مسافرًا لا يجد الماء، أن يتيمم‏.‏ وهذا هو مذهب جمهور الخلف والسلف‏.‏

وقد ثبت تيمم الجنب في أحاديث صحاح وحِسان، كحديث عمار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ وهو في الصحيحين‏.‏ وحديث عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ وهو في البخاري‏.‏ وحديث أبي ذر، وعمرو بن العاص، وصاحب الشجة ـ رضي الله عنهم ـ وهو في السنن‏.‏

فهاتان آيتان من كتاب الله، وخمسة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد عرفت مناظرة ابن مسعود في ذلك لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما‏.‏

ولهذا نظائر كثيرة عن الصحابة‏.‏ إذا عرفتها تعرف دلالة الكتاب والسنة عن الرجل العظيم القدر‏.‏ تحقيقا لقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، ولا يرد هذا النزاع إلا إلى الله والرسول المعصوم المبلغ عن الله، الذي لا ينطق عن الهوي، إن هو إلا وحي يوحي‏.‏ الذي هو الواسطة بين الله وبين عباده‏.‏

/ فَصــل

ونذكر هذا على قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏‏.‏

المراد به‏:‏ الجماع‏.‏ كما قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وغيره من العرب‏.‏ وهو يروى عن علي ـ رضي الله عنه ـ وغيره‏.‏ وهو الصحيح في معنى الآية‏.‏ وليس في نقض الوضوء من مس النساء، لا كتاب ولا سنة‏.‏ وقد كان المسلمون دائمًا يمسون نساءهم‏.‏ وما نقل مسلم واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه أمر أحدًا بالوضوء من مس النساء‏.‏

وقول من قال‏:‏ إنه أراد ما دون الجماع، وإنه ينقض الوضوء، فقد روي عن ابن عمر والحسن ‏[‏باليد‏]‏ وهو قول جماعة من السلف في المس بشهوة، والوضوء منه حسن مستحب لإطفاء الشهوة، كما يستحب الوضوء من الغضب لإطفائه‏.‏ وأما وجوبه، فلا‏.‏

وأما المس المجرد عن الشهوة، فما أعلم للنقض به أصلاً عن السلف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏]‏‏.‏ لم يذكر في القرآن الوضوء/ منه، بل إنما ذكر التيمم، بعد أن أمر المحدث القائم للصلاة بالوضوء‏.‏ وأمر الجنب بالاغتسال فذكر الطهارة بالصعيد الطيب، ولابد أن يبين النوعين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ‏}‏ بيان لتيمم هذا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَمَسْتُمُ‏}‏ لم يذكر واحدًا منهما لبيان طهارة الماء‏.‏

إذا كان قد عرف أصل هذا، فقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، فالآية ليس فيها إلا أن اللامس إذا لم يجد الماء يتيمم، فكيف يكون هذا من الحدث الأصغر‏؟‏ يأمر من مس المرأة أن يتيمم، وهو لم يأمره أن يتوضأ‏.‏ فكيف يأمر بالتيمم من لم يأمره بالوضوء‏؟‏ وهو إنما أمر بالتيمم من أمره بالوضوء والاغتسال‏.‏ ونظير هذا يطول، ومن تدبر الآية قطع بأن هذا هو المراد‏.‏

 فَصْــل

ودلت الآية على أن المسافر يجامع أهله، وإن لم يجد الماء، ولا يكره له ذلك كما قاله الله في الآية‏.‏ وكما دلت عليه الأحاديث؛ حديث أبي ذر وغيره‏.‏

/ فَصْــل

وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ دليل على أن التيمم مطهر كالماء سواء‏.‏

وكذلك ثبت في صحيح السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين‏.‏ فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير‏)‏‏.‏ رواه الترمذي وصححه ورواه أبو داود والنسائي‏.‏

وفي الصحيح عنه‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا‏)‏‏.‏

وهو صلى الله عليه وسلم جعل التراب طهورًا في طهارة الحدث وطهارة الجنب‏.‏ كما قال في حديث أبي سعيد‏:‏ ‏(‏إذا أتي أحدكم المسجد فليقلب نعليه فلينظر فيهما، فإن كان بهما أذي أو خبث فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور‏)‏، وقال في حديث أم سلمة‏:‏/ ‏(‏ذيل المرأة يطهره ما بعده‏)‏‏.‏

فدل على أن التيمم مطهر، يجعل صاحبه طاهرًا، كما يجعل الماء مستعمله في الطهارة طاهرًا، إن لم يكن جنبًا ولا محدثًا‏.‏ فمن قال‏:‏ إن المتيمم جنب أو محدث، فقد خالف الكتاب والسنة‏.‏ بل هو متطهر‏.‏

وقوله في حديث عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ ‏(‏أصليت بأصحابك وأنت جنب‏؟‏‏)‏ استفهام‏.‏ أي هل فعلت ذلك‏؟‏ فأخبره عمرو ـ رضي الله عنه ـ أنه لم يفعله بل تيمم لخوفه أن يقتله البرد‏.‏ فسكت صلى الله عليه وسلم عنه، وضحك‏.‏ ولم يقل شيئًا ‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن هذا إنكار عليه أنه صلى مع الجنابة، فإنه يدل على أن الصلاة مع الجنابة لا تجوز‏.‏ فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر ما هو منكر، فلما أخبره أنه صلى بالتيمم‏.‏ دل على أنه لم يصل وهو جنب‏.‏

فالحديث حجة على من احتج به، وجعل المتيمم جنبًا ،ومحدثا، والله يقول‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ‏}‏ ، فلم يجـز الله له الصـلاة حتى يتطهـر‏.‏ والمتيمم قد تطهر بنص الكتاب والسنة‏.‏ فكيف يكون جنبًا غير/متطهر‏؟‏ لكنها طهارة بدل‏.‏ فإذا قدر على الماء بطلت هـذه الطهـارة وتطهـر بالماء حينئـذ؛ لأن البـول المتقدم جعله محدثا‏.‏ والصعيد جعله مطهرًا، إلى أن يجد الماء‏.‏ فإن وجد الماء فهو محدث بالسبب المتقدم لا أن الحدث كان مستمرًا‏.‏

ثم مـن قـال‏:‏ التيمم مبيـح لا رافـع، فـإن نزاعه لفظي‏.‏ فـإنـه إن قـال‏:‏ إنه يبيح الصـلاة مـع الجنابـة والحـدث، وإنـه ليس بطهـور، فهـو يخالف النصوص‏.‏ والجنابة محرمة للصـلاة‏.‏ فيمتنـع أن يجتمع المبيـح والمحـرم على سـبيل التمــام‏.‏ فـإن ذلك يقتضي اجتماع الضـدين‏.‏ والمتيمم غـير ممنـوع مـن الصـلاة‏.‏ فالمنـع ارتفـع بالاتفاق، وحكـم الجنابـة المنـع‏.‏ فــإذا قيــل بوجــوده، بـدون مقتضاهـا ـ وهو المنع ـ فهذا نزاع لفظي‏.‏

 فَصْــل

وفي الآيـة دلالة على أن المتخلي لا يجب عليه غسل فرجه بالماء، إنما يجب الماء في طهارة الحـدث بسبيلـه‏.‏ على أن إزالـة النجـو والخبث لا يتعـين لها المـاء، فـإنـه على ذلك تدل النصوص؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر فيها تارة بالماء، وتارة بغير الماء، كما قد بسط في مواضع‏.‏

/إذ المقصود هنا‏:‏ التنبيه على ما دلت عليه الآية‏.‏ فإن قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ‏}‏ نص في أنه عند عدم الماء يصلي وإن تغوط، بلا غسل‏.‏

وقد ثبت في السنة أنه يكفيه ثلاثة أحجار وأما مع العذر فإنه قال‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ‏}‏، وهذا يتناول كل قائم، وهو يتناول من جاء من الغائط، كما يتناول من خرجت منه الريح، فلو كان غسل الفرجين بالماء واجبًا على القائم إلى الصلاة، لكان واجبًا كوجوب غسل الأعضاء الأربعة‏.‏

والقرآن يدل على أنه لا يجب عليه إلا ما ذكره من الغسل والمسح، وهو يدل على أن المتوضئ والمتيمم متطهر‏.‏ والفرجان جاءت السنة بالاكتفاء فيهما بالاستجمار‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 108‏]‏، يدل على أن الاستنجاء مستحب، يحبه الله، لا أنه واجب‏.‏ بل لما كان غير هؤلاء من المسلمين لا يستنجون بالماء ـ ولم يذمهم على ذلك بل أقرهم‏.‏ ولكن خص هؤلاء بالمدح ـ دل على جواز ما فعله غير هؤلاء‏.‏ وأن فعل هؤلاء أفضل، وأنه مما فضل الله به الناس بعضهم على بعض‏.‏

/ فَصْـــل

الترتيب في الوضوء وغيره من العبادات والعقود، النزاع فيه مشهور‏.‏

فمذهب الشافعي وأحمد‏:‏ يجب‏.‏ ومذهب مالك وأبي حنيفة‏:‏ لا يجب‏.‏ وأحمد قد نص على وجوبه نصوصًا متعددة‏.‏ ولم يذكر المتقدمون ـ كالقاضي، ومن قبله ـ عنه نزاعًا‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ لم أر عنه فيه خلافًا‏.‏

قال‏:‏ وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد‏:‏ أنه غير واجب‏.‏

قلت‏:‏ هذه أخذت من نصه في القبضة للاستنشاق‏.‏ فلو أخر غسلها إلى ما بعد غسل الرجلين‏:‏ ففيه عن أحمد روايتان منصوصتان‏.‏ فإنه قال في إحدى الروايتين‏:‏ إنه لو نسيهما حتى صلى، تمضمض واستنشق، وأعاد الصلاة، ولم يعد الوضوء؛ لما في السنن عن المقدام ابن معدي كرب ؛ أنه أتي بوضوء، فغسل كفيه ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل ذراعيه ثلاثًا ثم تمضمض واستنشق‏.‏

/فغير أبي الخطاب فرق بينهما وبين غيرهما، بأن الترتيب إنما يجب فيما ذكر في القرآن‏.‏ وهما ليسا في القرآن‏.‏

وأبو الخطاب ـ ومن تبعه ـ رأوا هذا فرقًا ضعيفًا‏.‏

فإن الأنف والفم لو لم يكونا من الوجه لما وجب غسلهما‏.‏ ولهذا خرج الأصحاب‏:‏ أنهما من الوجه‏.‏ كما قال الخرقي وغيره‏:‏ والفم والأنف من الوجه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بهما غسل الوجه‏.‏ يبدأ بغسل ما بطن منه‏.‏ وقدم المضمضة؛ لأن الفم أقرب إلى الظاهر من الأنف‏.‏ ولهذا كان الأمر به أوكد‏.‏ وجاءت الأحاديث الصحيحة بالأمر به‏.‏ ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل سائر الوجه‏.‏

فإذا قيل بوجوبهما مع النزاع، فهما كسائر ما نوزع فيه‏.‏ مثل البياض الذي بين العذار والأذن، فمالك وغيره يقول‏:‏ ليس من الوجه وفي النزعتين والتحذيف ثلاثة أوجه‏:‏

قيل‏:‏ هما من الرأس ‏.‏ وقيل‏:‏ من الوجه‏.‏

والصحيح ‏:‏ أن النزعتين من الرأس، والتحذيف من الوجه فلو نسي ذلك فهو كما لو نسي المضمضة والاستنشاق‏.‏

فتسوية أبي الخطاب أقوى‏.‏

/وعلى هذا‏:‏ فأحمد إنما نص على من ترك ذلك ناسيًا‏.‏ ولهذا قيل له‏:‏ نسي المضمضة وحدها‏؟‏ فقال‏:‏ الاستنشاق عندي أوكد‏.‏ يعني إذا نسي ذلك وصلى‏.‏ قال‏:‏ يغسلهما، ويعيد الصلاة‏.‏ والإعادة إذا ترك الاستنشاق عنده أوكد، للأمر به في الأحاديث الصحيحة‏.‏ وكذلك الحديث المرفوع ،فإن جميع من نقل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أخبروا‏:‏ أنه بدأ بهما‏.‏

وهذا حكى فعلاً واحدًا، فلا يمكن الجزم بأنه كان متعمدًا‏.‏

وحينئذ، فليس في تأخيرهما عمدًا سنة، بل السنة في النسيان، فإن النسيان متيقن‏.‏ فإن الظاهر أنه كان ناسيًا إذا قدر الشك‏.‏ فإذا جاز مع التعمد، فمع النسيان أولى‏.‏ فالناسي معذور بكل حال، بخلاف المتعمد‏.‏ وهو القول الثالث‏.‏ وهو الفرق بين المتعمد لتنكيس الوضوء وبين المعذور بنسيان أو جهل‏.‏ وهو أرجح الأقوال‏.‏ وعليه يدل كلام الصحابة، وجمهور العلماء‏.‏

وهو الموافق لأصول المذهب في غير هذا الموضع‏.‏ وهو المنصوص عن أحمد في الصورة التي خرج منها أبو الخطاب‏.‏

فمن ذلك‏:‏ إذا أخل بالترتيب بين الذبح والحلق، فإن الجاهل يعذر بلا خلاف في المذهب‏.‏ وأما العالم المتعمد، فعنه روايتان‏.‏/والسنة إنما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏أنه‏]‏ كان يسأل عن ذلك فيقول‏:‏‏(‏افعل، ولا حرج‏)‏؛ لأنهم قدموا وأخروا بلا علم‏.‏ لم يتعمدوا المخالفة للسنة‏.‏ وإلا فالقرآن قد جاء بالترتيب لقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني قلدت هديي، ولبدت رأسي، فلا أحل وأحلق حتى أنحر‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 92‏]‏، أدل على الترتيب من قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 158‏]‏‏.‏

لكن يقال‏:‏ قد فرقوا بأن هذه عبادة واحدة مرتبط بعضها ببعض وتلك عبادات، كالحج والعمرة والصلاة والزكاة‏.‏

وهكذا فرق أبو بكر عبد العزيز بين الوضوء وغيره‏.‏ فقال‏:‏ ذاك كله من الحج‏:‏ الدماء والذبح والحلق والطواف‏.‏ والحج عبادة واحدة‏.‏ ولهذا متي وطئ قبل التحلل الأول فسد الحج عند الجمهور‏.‏ وهل يحصل كالدم وحده، أو كالدم والحلق‏؟‏ على روايتين‏.‏

ومنها‏:‏ إذا نسي بعض آيات السورة في قيام رمضان، فإنه لا يعيدها، ولا يعيد ما بعدها، مع أنه لو تعمد تنكيس آيات السورة/ وقراءة المؤخر قبل المقدم، لم يجز بالاتفاق‏.‏ وإنما النزاع في ترتيب السور‏.‏ نص على ذلك أحمد‏.‏ وحكاه عن أهل مكة‏.‏  سئل عن الإمام في شهر رمضان يدع الآيات من السورة‏.‏ تري لمن خلفه أن يقرأها، قال‏:‏ نعم‏.‏ ينبغي له أن يفعل‏.‏ قد كانوا بمكة يوكلون رجلا يكتب ما ترك الإمام من الحروف وغيرها‏.‏ فإذا كان ليلة الختمة أعاده‏.‏

قال الأصحاب ـ كأبي محمد ـ ‏:‏ وإنما استحب ذلك لتتم الختمة‏.‏ ويكمل الثواب‏.‏

فقد جعل أهل مكة وأحمد وأصحابه إعادة المنسي من الآيات وحده يكمل الختمة والثواب، وإن كان قد أخل بالترتيب هنا‏.‏ فإنه لم يقرأ تمام السورة‏.‏ وهذا مأثور عن على ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ أنه نسي آية من سورة، ثم في أثناء القراءة قرأها، وعاد إلى موضعه، ولم يشعر أحد أنه نسي إلا من كان حافظًا‏.‏

فهكذا من ترك غسل عضو أو بعضه نسيانا يغسله وحده، ولا يعيد غسل ما بعد، فيكون قد غسله مرتين‏.‏ فإن هذا لا حاجة إليه‏.‏

وهذا التفصيل يوافق ما نقل عن الصحابة والأكثرين، فإن الأصحاب وغيرهم فعلوا كما نقله ابن المنذر عن علي، ومكحول والنخعي،/والزهري والأوزاعي‏.‏ فيمن نسي مسح رأسه، فرأى في لحيته بللا فمسح به رأسه‏.‏ فلم يأمروه بإعادة غسل رجليه، واختاره ابن المنذر‏.‏

وقد نقل عن علي وابن مسعود‏:‏ ما أبالي بأي أعضائي بدأت‏.‏ قال أحمد‏:‏ إنما عني به اليسرى على اليمنى؛ لأن مخرجهما من الكتاب واحد‏.‏

ثم قال أحمد‏:‏ حدثني جرير عن قابوس عن أبيه‏:‏ أن عليًّا سئل فقيل له‏:‏ أحدنا يستعجل، فيغسل شيئًا قبل شيء‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ حتى يكون كما أمره الله تعالى‏.‏ فهذا الذي ذكره أحمد عن على يدل على وجوب الترتيب‏.‏

وما نقله ابن المنذر في صورة النسيان‏:‏ يدل على أن الترتيب يسقط مع النسيان، ويعيد المنسي فقط‏.‏

فدل على أن التفصيل قول على ـ رضي الله عنه‏.‏

وقد ذكر من أسقطه مطلقًا‏:‏ ما روي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال‏:‏ لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك‏.‏

لكن قال أحمد وغيره‏:‏ لا نعرف لهذا أصلاً، ونقلوا في الوجوب/ عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن‏.‏ وهؤلاء أئمة التابعين‏.‏

وصورة النسيان مرادة قطعًا‏.‏ فتبين أنها قول جمهور السلف أو جميعهم‏.‏

والأمر المنكر‏:‏ أن تتعمد تنكيس الوضوء‏.‏ فلا ريب أن هذا مخالف لظاهر الكتاب، مخالف للسنة المتواترة‏.‏ فإن هذا لو كان جائزًا لكان قد وقع أحيانًا، أو تبين جوازه ـ كما في ترتيب التسبيح ـ لما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفضل الكلام ـ بعد القرآن ـ أربع، وهن من القرآن‏:‏ سبحان الله، والحمد للَّه، ولا إله إلا الله والله أكبر‏.‏ لا يضرك بأيتهن بدأت‏.‏

ومما يدل على ذلك شرعًا ومذهبًا‏:‏ أن من نسي صلاة صلاها إذا ذكرها بالنص‏.‏

وقد سقط الترتيب هنا في مذهب أحمد بلا خلاف‏.‏ ومذهب أبي حنيفة وغيره‏.‏

ولكن حكي عن مالك‏:‏ أنه لا يسقط، وقاسوا ذلك على ترتيب الطهارة‏.‏

/وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها‏)‏ نص في أنه يصليها في أي وقت ذكر‏.‏ وليس عليه غير ذلك‏.‏

وقد سلم الأصحاب‏:‏ أن ترتيب الجمع لا يسقط بالنسيان‏.‏

وعموم الحديث يدل على سقوطه، فلو كانت المنسية هي الأولي من صلاتي الجمع، أعادها وحدها بموجب النص‏.‏ ومن أوجب إعادة الثانية فقد خالف‏.‏

وكذلك يقال في سائر أهل الأعذار، كالمسبوق إذا أدركهم في الثانية، صلاها معهم، ثم صلى الأولى‏.‏ كما لو أدرك بعض الصلاة‏.‏ وليس ترتيب صلاته على أول الصلاة بأعظم من ترتب آخر الصلاة على أولها‏.‏

وإذا كان هكذا سقط ما أدرك، ويقضى ما سقط، فهذا في الصلاتين أولي لاسيما وهو إذا لم يدرك من المغرب إلا تشهدا تشهد ثلاث تشهدات، كما في حديث ابن مسعود المشهور في قصة مسروق وحديثه ‏.‏

وهذا أصل ثابت بالنص والإجماع، يعتبر به نظائره، وهو سقوط الترتيب عن المسبوق‏.‏

/وكانوا في أول الإسلام لا يرتبون‏.‏ فيصلون ما فاتهم‏.‏ ثم يصلون مع الإمام، لكن نسخ ذلك‏.‏ وقد روي أن أول من فعله معاذ‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قد سن لكم معاذ فاتبعوه‏)‏‏.‏

والأئمة الأربعة‏:‏ على أنه يقرأ في ركعتي القضاء بالحمد وسورة‏.‏

وكذلك لو أدرك الإمام ساجدًا سجد معه بالنص واتفاق الأئمة‏.‏

فقد سجد قبل القيام لمتابعة الإمام وإن لم يعتد به‏.‏ لكنه لو فعل هذا عمدًا لم يجز‏.‏ فلو كبر وسجد ثم قام، لم تصح صلاته‏.‏

لكن هذا يستدل به على أن الركعة الواحدة يجب فيها الترتيب‏.‏ فإن هذا السجود ـ ولو ضم إليه بعد السلام ركوعًا مجردًا ـ لم يصر ذلك ركعة، بل عليه أن يأتي بركعة بعدها سجدتان؛ لأنه أخل بالترتيب والموالاة‏.‏

فكذلك إذا نسي الركوع حتى تشهد وسلم، ففيه قولان في المذهب‏:‏ هل تبطل صلاته‏؟‏ والمنصوص‏:‏ إن لم يطل الفصل بني على ما مضي، وهو قول الشافعي ـ رحمه الله ـ وغيره‏.‏

وذهب طائفة من العلماء إلى سقوط الموالاة والترتيب في الصلاة/ مع النسيان‏.‏ فقال مكحول، ومحمد بن أسلم ـ في المصلي ينسي سجدة أو ركعة ـ ‏:‏يصليها متي ما ذكرها‏.‏ ويسجد للسهو‏.‏ وقال الأوزاعي ـ لرجل نسي سجدة من صلاة الظهر، فذكرها في صلاة العصر ‏:‏ يمضي في صلاته، فإذا فرغ سجد‏.‏

ويدل على هذا القول‏:‏ أحاديث سجود السهو، فإنها تدل على أنه يتم الصلاة، ثم يسجد للسهو، ولو مع طول الفصل‏.‏

وأما المسبوق‏:‏ فالسجود الذي فعله مع الإمام كان لمتابعة الإمام‏.‏ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكرة‏:‏ ‏(‏زادك الله حرصًا، ولا تعد‏)‏ وهو متمكن من أن يأتي بالركعة بعد السلام فلا عذر له حتى‏.‏‏.‏‏.‏ وإذا نسي ركنًا من الأولى حتى شرع في الثانية‏.‏ ففيها قولان‏.‏

مالك وأحمد لا يقولان بالتلفيق‏.‏ بل تلغو المنسي ركنها‏.‏ وتقوم هذه مقامها‏.‏ ولكن هل يكون ذلك بالقراءة أو بالركوع‏؟‏ فيه نزاع‏.‏

والشافعي يقول‏:‏ ما فعله بعد الركوع المنسي، فهو لغو؛ لأن فعله في غير محله لا أن يفعل نظيره في الثانية‏.‏ فيكون هو تمام الأول،/كما لو سلم من الصلاة، ثم ذكر‏.‏ فإن السلام يقع لغوًا‏.‏

فأحمد ومالك يقولان‏:‏ هو إنما يقصد بما فعله أن يكون من الركعة الثانية‏.‏ لم يقصد أن يكون من الأولي، وهو إذا قرأ وركع في الركعة الثانية‏:‏ أمكن أن يجعلها هي الأولي‏.‏ فإن الترتيب بين الركعات يسقط بالعذر، فلا وجه لإبطال هذه، ولا يكون فاعلا له في غير محله، إلا إذا جعلت هذه ثانية‏.‏ فإذا جعلت الأولى، كان قد فعله في محله‏.‏

وإذا قيل‏:‏ هو قصد الثانية قبل، وقصد بالسجود فيها السجود في الثانية لرعاية ترتيبه في أبعاض الركعة بألا يجعل بعضها في ركعة غيرها، أولي من رعايتها في الركعتين‏.‏ فإن جعل الأولي ثانية يجوز للعذر، كما في المسبوق‏.‏ وأما جعل سجود الثانية تمامًا للأولى، فلا نظير له في الشرع‏.‏ وبسط هذا له مكان آخر‏.‏

والمقصود هنا سقوط الترتيب في الوضوء بالنسيان، وكذلك سقوط الموالاة كما هو قول مالك‏.‏ وكذلك بغير النسيان من الأعذار، مثل بعد الماء‏.‏ كما نقل عن ابن عمر‏.‏ فإن الصلاة نفسها إذا جاز فيها عدم الموالاة للعذر، فالوضوء أولي‏:‏ بدليل صلاة الخوف في حديث ابن عمر، وأحاديث سجود السهو ‏.‏

/وأما حديث صاحب اللمعة، التي كانت في ظهر قدمه‏:‏ فمثل هذا لا ينسى، فدل أنه تركها تفريطًا‏.‏

والموالاة في غسل الجنابة‏:‏ لا تجب، للحديث الذي فيه أنه‏:‏ رأى في بدنه موضعًا لم يصبه الماء‏.‏ فعصر عليه شعره‏.‏

والأصحاب فرقوا بينه وبين الوضوء‏.‏ فإنه لا يجب ترتيبه، فكذلك الموالاة‏.‏ ومالك يوجب الموالاة، وإن لم يوجب الترتيب في الوضوء‏.‏

وأما في الغسل، فالبدن كعضو واحد‏.‏ والعضو الواحد لا ترتيب فيه بالاتفاق‏.‏ وأما تعمد تفريق الغسل، فهو كتعمد تفريق غسل العضو الواحد‏.‏ لكن فرق بينهما، فإن غسل الجنابة كإزالة النجاسة، لا يتعدى حكم الماء محله، بخلاف الوضوء‏.‏ فإن حكمه طهارة جميع البدن، والمغسول أربعة أعضاء‏.‏ وهذا محل نظر‏.‏ والجنب إذا وجد بعض ما يكفيه استعمله‏.‏ وأما المتوضئ، ففيه قولان للأصحاب‏.‏ ومن جوز ذلك جعل الوضوء يتفرق للعذر، وجعل ما غسل يحصل به بعض الطهارة‏.‏ وكذلك الماسح على الخفين إذا خلعهما‏.‏ هل يقتصر على مسح الرجلين أو يعيد الوضوء‏؟‏ فيه قولان، هما روايتان‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن المأخذ هو الموالاة‏.‏ وقيل‏:‏ إن المأخذ أن/ الوضوء لا ينتقض، فإذا عاد الحدث إلى الرجل عاد إلى جميع الأعضاء، وهذا عند العذر‏:‏ فيه نزاع كما تقدم‏.‏

وقد يكون الترتيب شرطًا لا يسقط بجهل ولا نسيان، كما في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏من ذبح قبل الصلاة فإنما هو شاة لحم‏)‏، فالذبح للأضحية‏:‏ مشروط بالصلاة قبله‏.‏ وأبو بُردة ابن نيار ـ رضي الله عنه ـ كان جاهلاً‏.‏ فلم يعذره بالجهل، بل أمره بإعادة الذبح‏.‏ بخلاف الذين قدموا في الحج‏:‏ الذبح على الرمي، أو الحلق على ما قبله‏.‏ فإنه قال‏:‏ ‏(‏افعل ولا حرج‏)‏ فهاتان سنتان‏:‏ سنة في الأضحية، إذا ذبحت قبل الصلاة‏:‏ أنها لا تجزئ‏.‏ وسنة في الهدي، إذا ذبح قبل الرمي جهلا‏:‏ أجزأ‏.‏

والفرق بينهما ـ والله أعلم ـ أن الهدي صار نسكًا بسوقه إلى الحرم وتقليده وإشعاره‏.‏ فقد بلغ محله في المكان والزمان‏.‏ فإذا قدم جهلاً، لم يخرج عن كونه هديًا‏.‏ وأما الأضحية‏:‏ فإنها قبل الصلاة لا تتميز عن شاة اللحم‏.‏ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ذبح قبل الصلاة، فإنما هي شاة لحم قدمها لأهله، وإنما هي نسك بعد الصلاة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 162‏]‏، فصار فعله قبل هذا الوقت‏:‏ كالصلاة قبل وقتها‏.‏

/فهذا وقت الأضحية وقته بعد فعل الصلاة، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في الأحاديث الصحيحة، وهو قول الجمهور من العلماء ـ مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، وغيرهم ـ وإنما قدر وقتها بمقدار الصلاة‏:‏ الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد، كالخرقي‏.‏

وفي الأضحية‏:‏ يشترط في أحد القولين أن يذبح بعد الإمام‏.‏ وهو قول مالك، وأحد القولين في مذهب أحمد، ذكره أبو بكر، والحجة فيه حديث جابر في الصحيح‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏1‏]‏ نزلت في ذلك وكذلك في الإفاضة من عرفة قبل الإمام قولان في مذهب أحمد‏:‏ يجب فيه دم، فهذا عند من يوجبه بمنزلة اتباع المأموم الإمام في الصلاة‏.‏

 

فَصْــل

وما ذكره من نصه على قراءة ما نسي، يدل على أن الترتيب يسقط بالنسيان في القراءة‏.‏ وقد ذكر أحمد وأصحابه أن موالاة الفاتحة واجبة، وإذا تركها لعذر نسيان، قالوا ـ واللفظ لأبي محمد ـ‏:‏ وإن كثر ذلك ـ أي الفصل ـ استأنف قراءتها إلا أن يكون المسكوت /مأمورًا به، كالمأموم يشرع في قراءة الفاتحة ثم يسمع قراءة الإمام فينصت له‏.‏ ثم إذا سكت الإمام، أتم قراءتها وأجزأته، أومأ إليه أحمد‏.‏ وكذلك إن كان السكوت نسيانًا أو نوبا، أو لانتقاله إلى غيرها غلطًا، لم تبطل‏.‏ فإذا ذكر، أتى بما بقي منها‏.‏ فإن تمادى فيما هو فيه ـ بعد ذكرها ـ أبطلها‏.‏ ولزمه استئنافها‏.‏ قال‏:‏ وإن قدم آية منها في غير موضعها، أبطلها‏.‏ وإن كان غلطًا، رجع إلى موضع الغلط فأتمها‏.‏

فلم يسقطوا الترتيب بالعذر، كما أسقطوا الموالاة، فإن الموالاة أخف‏.‏ فإنه لو قرأ بعض سورة اليوم وبعضها غدًا، جاز‏.‏ ولو نكسها، لم يجز‏.‏

ويفرق في الترتيب بين الكلام المستقل الذي إذا أتي به وحده كان مما يسوغ تلاوته، وبين ما هو مرتبط بغيره‏.‏ فلو قال‏:‏‏{‏صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ‏}‏ لم يكن هذا كلامًا مفيدًا حتى يقول‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}

ولو قال‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2 ـ 7‏]‏، كان مفيدًا‏.‏ لكن مثل هذا لا يقع فيه أحد‏.‏ ولا يبتدئ أحد الفاتحة بمثل ذلك، لا عمدًا ولا غلطًا‏.‏ وإنما يقع الغلط فيما يحتاج فيه إلى الترتيب‏.‏ فهذا فرق بين ما ذكروه فيما ينسي من الفاتحة وما ينسي من الختمة‏.‏

/ فَصْــل

ومما يبين أن الترتيب يسقط إذا احتاج إلى التكرار بلا تفريط من الإنسان، أن التيمم يجزئ بضربة واحدة، كما دل عليه الحديث الصحيح حديث عمار بن ياسر ـ رضي الله عنهما ـ وهو مذهب أحمد بلا خلاف‏.‏ وهو في الصحيحين من حديث أبي موسى‏.‏ ومن حديث ابن أبزي ‏.‏

ففي حديث ابن أبزي‏:‏ ‏(‏إنما كان يكفيك هكذا‏.‏ فضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما‏.‏ ثم مسح بهما وجهه وكفيه‏)‏ وكذلك لمسلم في حديث أبي موسى‏:‏ ‏(‏إنما كان يكفيك أن تقول هكذا‏.‏ وضرب بيديه إلى الأرض، فنفض يديه‏.‏ فمسح وجهه وكفيه‏)‏ وللبخاري‏:‏ ‏(‏ومسح وجهه وكفيه مرة واحدة‏)‏‏.‏

وقد اختلف الأصحاب في هذه الصفة‏.‏

فقيل‏:‏ يرتب، فيمسح وجهه ببطون أصابعه، وظاهر يديه براحته‏.‏

وقيل‏:‏ لا يجب ذلك، بل يمسح بهما وجهه وظاهر كفيه‏.‏

/وعلى الوجهين‏:‏ لا يؤخر مسح الراحتين إلى ما بعد الوجه‏.‏ بل يمسحهما‏:‏ إما قبل الوجه، وإما مع الوجه، وظهور الكفين، ولهذا قال ابن عقيل‏:‏ رأيت التيمم بضربة واحدة‏.‏

قد أسقط ترتيبًا مستحقًا في الوضوء، وهو أنه بعد أن مسح باطن يديه مسح وجهه‏.‏

وفي الصحيحين من حديث عمار بن ياسر من طريق أبي موسى ـ رضي الله عنهما ـ قال‏:‏ ‏(‏إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا‏)‏ ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه‏.‏ لفظ البخاري‏:‏ وضرب بكفيه ضربة على الأرض، ثم نفضهما، ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله ـ أو ظهر شماله بكفه ـ ثم مسح بهما وجهه‏.‏

وهذا صريح في أنه لم يمسح الراحتين بعد الوجه، ولا يختلف مذهب أحمد أن ذلك لا يجب‏.‏ وأما ظهور الكفين، فرواية البخاري صريحة في أنه مر على ظهر الكف قبل الوجه وقوله في الرواية الأخرى‏:‏ وظاهر كفيه يدل على أنه مسح ظاهر كل منهما براحة اليد الأخرى‏.‏ وقال فيها‏:‏ ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه قبل الوجه‏.‏

وقال أبو محمد‏:‏ فرض الراحتين سقط بإمرار كل واحدة على ظهر/ الكف، وهذا إنما يوجب سقوط فرض باطن الراحة‏.‏ وأما باطن الأصابع، فعلى ما ذكره سقط مع الوجه‏.‏

وعلى كل حال، فباطن اليدين يصيبهما التراب حين يضرب بهما الأرض، وحين يمسح بهما الوجه، وظهر الكفين‏.‏ وإن مسح إحداهما بالأخرى، فهو ثلاث مرات‏.‏

ولو كان الترتيب واجبًا، لوجب أن يمسح باطنهما بعد الوجه‏.‏ وهذا لا يمكن مع القول بضربة واحدة‏.‏ ولو فعل ذلك للزم تكرار مسحهما مرة بعد مرة، فسقط لذلك‏.‏ فإن التيمم لا يشرع فيه التكرار، بخلاف الوضوء؛ فإنه ـ وإن غسل يديه ابتداء، وأخذ بهما المـاء لوجهه ـ فهو بعد الوجه يغسلهما إلى المرفقين‏.‏ وهو يأخذ الماء بهما‏.‏ فيتكرر غسلهما؛ لأن الوضوء يستحب فيه التكرار في الجملة؛ لأنه طهارة بالماء‏.‏ ولكن لو لم يغسل كفيه بعد غسل الوجه، فهو محل نظر، فإنه يغرف بهما الماء، وقد قالوا‏:‏ إذا نوى الاغتراف لم يصر الماء مستعملاً‏.‏ وإن نوى غسلهما فيه، صار مستعملاً‏.‏ وإن لم ينو شيئًا ففيه وجهان‏.‏

والصحيح‏:‏ أنه لا يصير مستعملاً، وإن نوى غسلهما فيه؛ لمجيء السنة بذلك، وهذا يقتضي أن غسلهما بنية الاغتراف لا تحصل به طهارتهما بل لابد من غسل آخر‏.‏

/والأقوى‏:‏ أن هذا لا يجب، بل غسلهما بنية الاغتراف يجزئ عن تكرار غسلهما، كما في التيمم‏.‏

وأيضًا، فإنه يغسل ذراعيه بيديه، فيكون هذا غسلاً لباطن اليد‏.‏

ولو قيل‏:‏ بل بقي غسلهما ابتداء، ومع الوجه يسقط فرضهما ـ كما قيل مثل ذلك في التيمم ـ لكان متوجهًا‏.‏ فإنه قال في الوضوء‏:‏‏{‏فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ‏}‏ كما قال في التيمم‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، ففي الوضوء أخر ذكر اليد‏.‏

لكن الرواية التي انفرد بها البخاري، تبين أنه مسح ظهر الكفين قبل الوجه‏.‏ وسائر الروايات مجملة، تقتضي أنه لما مسح لم يمسح الراحتين بعد الوجه، فكذلك ظهر الكفين، بل مسح ظهرهما مع بطنهما؛ لأن مسحهما جملة أقرب إلى الترتيب‏.‏ فإن مسح العضو الواحد بعضه مع بعض أولى من تفريق ذلك‏.‏

وأيضًا، فتكون الراحتان ممسوحتين مع ظهر الكف، والاعتداد بذلك أولى من الاعتداد بمسحهما مع الوجه‏.‏

وما ذكره بعض الأصحاب ـ من أنه يجعل الأصابع للوجه، وبطون الراحتين لظهور الكفين ـ خلاف ما جاءت به الأحاديث‏.‏/وليس في كلام أحمد ما يدل عليه‏.‏ وهو متعسر، أو متعذر‏.‏ وهو بدعة لا أصل لها في الشرع‏.‏ وبطون الأصابع لا تكاد تستوعب الوجه‏.‏

وإنما احتاجوا إلى هذا ليجعلوا بعض التراب لظاهر الكفين بعد الوجه‏.‏

فيقال لهم‏:‏ كما أن الراحتين لا يمسحان بعد الوجه بلا نزاع، فكذلك ظهر الكفين‏.‏ فإنهم ـ وإن مسحوا ظهر الكفين بالراحتين ببطون الأصابع ـ مسحوا مع الوجه، مسح باليدين قبل الوجه، كما قال ابن عقيل؛ ولهذا اختار المجد‏:‏ أنه لا يجب الترتيب فيه، بل يجوز مسح ظهر الكفين قبل الوجه، كما دل عليه الحديث الصحيح، والحديث الصحيح يدل على أنه يمسح الوجه وظاهر الكفين بذلك التراب، وأن مسح ظهر الكفين بما بقي في اليدين من التراب يكفي لظهر الكفين‏.‏ فإن ألفاظ الحديث كلها تتعلق بأنه يمسح وجهه بيديه، ومسح اليدين إحداهما بالأخرى، لم يجعل بعض باطن اليد للوجه وبعضه للكفين، بل بباطن اليدين مسح وجهه ومسح كفيه، ومسح إحداهما بالأخرى‏.‏

وأجاب القاضي ومن وافقه ـ متابعة لأصحاب الشافعي ـ بأنه إذا تيمم لجرح في عضو، يكون التيمم فيه عند وجوب غسله، فيفصل بالتيمم بين أبعاض الوضوء، هذا فعل مبتدع، وفيه ضرر عظيم، ومشقة لا/تأتي بها الشريعة‏.‏ وهذا ونحوه إسراف في وجوب الترتيب، حيث لم يوجبه الله ورسوله‏.‏ والنفاة يجوزون التنكيس لغير عذر، وخيار الأمور أوساطها، ودين الله بين الغالي والجافي‏.‏ والله أعلم‏.‏